هل تستعصي الأزمة في لبنان على الحلّ؟
حاولت جامعة الدول العربية وفشلت..
حاولت الأمم المتّحدة وانكفأت..
حاولت الولايات المتّحدة عبر العقوبات وتراجعت..
حاول الاتحاد الأوروبي مع فرنسا ومن دونها، بالترغيب أحياناً، وبالتهديد أحياناً أخرى، من دون جدوى..
حاول الاتحاد الروسي عن طريق الاسترضاء فلم يرضِ أحداً..
وكانت أخيراً محاولة الفاتيكان الذي دعا إلى لقاء صلاة وتأمّل. ولكنّ الممسكين بتلابيب الأزمة في لبنان لم يصلّوا.. ولم يتأمّلوا. وبقيت أبواب السماء مغلقة في وجوههم. فكانت إدانة البابا لهم.
وكانت إدانة سابقة في تاريخ العلاقات بين الفاتيكان ولبنان، بل بين الفاتيكان وأيّ دولة في العالم.
لم يسمِّ البابا فرنسيس في كلمته التي اختتم بها لقاء الكرادلة في الأوّل من تموز شخصاً أو حزباً أو مسؤولاً. أدان السلطة اللبنانية أو المتسلّطين على لبنان، فانضمّ بذلك ليس فقط إلى المراجع الدينية المسيحية (الكاثوليكية والمارونية والأرثوذكسية والإنجيلية)، ولكنّه انضمّ أيضاً إلى الرأي العام اللبناني بكلّ طوائفه ومكوّناته المتعدّدة. مع ذلك لم يحاول أحد من أهل السلطة مراجعة حساباته، أو إعادة النظر في مواقفه، أو حتى الاستماع إلى نصائح وتحذيرات الجهات الدولية والعربية التي حذّرت من خطورة الانهيار المتسارع. وهذا يعني أنّ أهل السلطة لا يزالون يعتقدون أنّهم فوق المساءلة والمحاسبة، حتى عن جريمة تفجير مرفأ بيروت.
بالنسبة إلى منظمة الأمم المتحدة وجامعة الدول العربية، فإنّ لبنان هو دولة كغيره من الدول الأعضاء. ولكن بالنسبة إلى الفاتيكان، فإنّ لبنان ليس مجرّد واحد زائد على عدد الدول االعربية، ولكنّه دولة استثنائية. وتقوم هذه الاستثنائية على الدور الذي يلقيه الفاتيكان على عاتق هذه الدولة. وهو دور ثقافي في الدرجة الأولى ويتمثّل في تقديم نموذج يُحتذى للعيش المشترك بين جماعات دينية ومذهبية متعدّدة.
من أجل ذلك، من الطبيعي أن يبذل الفاتيكان كلّ جهد ومسعى لإنقاذ لبنان الرسالة.. فهل يستطيع؟
كان قدر كبير من الإجابة على هذا السؤال يتوقّف على السلطة اللبنانية. الآن تغيّر الوضع. المجتمع الدولي يقفز من فوق هذه السلطة في تعامله مع لبنان.. وهو يحمّلها نسبة مرتفعة جداً من مسؤوليات التدهور والفشل والانهيار الذي تعانيه الدولة.. الرسالة.
تكرّس ذلك في خطاب البابا يوم الأول من تموز أثناء لقاء البطاركة. فاللغة والمنطق والوضوح التي اتّسم بها خطاب البابا فرنسيس في ختام اجتماع اليوم الواحد، تتماهى مع اللغة والمنطق والوضوح التي اتّسمت بها خطابات ومواعظ البطريرك بشارة الراعي، وكأنّهما ينهلان من معين واحد. أو كأنّهما ينظران إلى ما يجري في لبنان بعين واحدة.
يبقى السؤال المؤلم. هل لبنان، الذي يحترم ما نصّت عليه وثيقة الإرشاد الرسولي (الفقرة 93)، مؤهّل اليوم للالتزام بنصائح بابا الأخوّة الإنسانية؟
إنّ قراءة ما بين سطور كلمة البابا تشير إلى أنّ الفاتيكان الذي ضاق ذرعاً بفساد وفشل السلطة السياسية، لن يترك هذه السلطة ترتكب جريمة الإجهاز على لبنان الرسالة.
مع ذلك ليس لبنان الدولة الوحيدة في العالم التي سقطت في حفرة الفشل، ولكنّه الدولة الوحيدة التي لا يريد العالم لها أن تفشل، لأنّه لا يتحمّل نتائج وتبعات فشلها.
ذلك أنّ الفشل هنا ليس مجرّد فشل سياسي واقتصادي ومالي، بل يتعدّى ذلك إلى فشل الصيغة الاستثنائية التي قام عليها لبنان والتي يعتبرها العالم نموذجاً يُحتذى، خاصة في منطقة الشرق الأوسط المتعدّدة الأديان والمذاهب والعقائد.
لم يكن لبنان منذ ولادته في عام 1920، ثمّ منذ استقلاله في عام 1943، دولة مثالية. وهو اليوم أبعد ما يكون عن هذه المثالية. إلا أنّ صيغته التعايشية هي مصدر عطف المجتمع الدولي عليه. وهي الأساس الذي تقوم عليه خصوصية علاقته بالفاتيكان.
فمنذ المجمع الفاتيكاني الثاني عام 1965، تبنّى الفاتيكان مبدأ العيش المشترك بين المسلمين والمسيحيين. وهو المبدأ الذي شكّل جزءاً أساسياً من استراتيجية جديدة قامت على الاعتراف بالكنائس المختلفة (الأرثوذكسية والإنجيلية)، وبالأديان المختلفة (الإسلام واليهودية)، والانفتاح على العقائد الأخرى (البوذية والهندوسية). ومنذ ذلك الوقت أيضاً، وجد الفاتيكان في صيغة لبنان نموذجاً يُحتذى حتى أصبحت هذه الصيغة أساس استراتيجية الفاتيكان للمحافظة على الوجود المسيحي في الشرق.
عَكَسَ هذا التوجّه السينودسُ حول الشرق الأوسط (2010)، الذي دعا إليه البابا السابق بنديكتوس السادس عشر، وتكرّس في وثيقة الإرشاد الرسولي التي تعمّد البابا إعلانها من بيروت، والتي ركّزت على المبادئ الثلاثة التالية:
1- اعتبار الحرية الدينية أمّ الحرّيات.
2- تأكيد الدولة الوطنية (وليس الدولة الدينية).
3- تحقيق المساواة بين المواطنين في الحقوق والواجبات (اعتماد مبدأ المساواة بدلاً من مبدأ التسامح).
كان الفاتيكان، ولعلّه لم يزل، يأمل في أن تجد هذه المبادئ العامّة طريقها إلى مجتمعات الشرق الأوسط لتتكرّس في دساتير دول هذه المجتمعات. وكان، ولعلّه لم يزل كذلك، يأمل في أن يكون لبنان نموذجاً يُحتذى في تبنّي هذه المبادئ واعتمادها أساساً لإدارة التنوّع.
لذلك يحاول الفاتيكان إنقاذ لبنان لإنقاذ صيغته في العيش المشترك، ولإعادة تقديمها إلى المجتمعات المتعدّدة في المنطقة كنموذج ناجح وجذّاب. غير أنّ واقع الانهيار في لبنان، الذي دفعه إلى مستوى الدولة الفاشلة، انعكس على الصيغة، إذ اختلط المبدأ بإدارة المبدأ.
فالمبدأ الوطني الصالح عندما يصبح في قبضة إدارة سياسية فاسدة، يفقد مقوّمات صلاحه، ويُلَوّن بلون فساد الإدارة.
من أجل ذلك لا بدّ من التخلّص من الإدارة الفاسدة لإعادة الاعتبار إلى المبدأ الصالح، ولكن كيف؟
لا يدخل الفاتيكان في اللعبة السياسية. لقد تعلّم من التجارب التي مرّ بها عبر الصراعات بين الدول الأوروبية، والصراعات بين الدول - المدن الإيطالية، كيف ينأى بنفسه عن الصراعات والمساومات، وكيف يبقى قوّة معنوية روحية أشدّ تأثيراً وأعمق أثراً وأكثر احتراماً.
مرّة وحيدة خرج الفاتيكان عن هذه القاعدة الذهبية التي يتمسّك بها. جرى ذلك حديثاً خلال التفاهم والتعاون اللذين تمّا بين البابا الأسبق يوحنا بولس الثاني (وكان من أصل بولوني)، والرئيس الأميركي الأسبق رونالد ريغان. فقد أدّى تعاونهما الروحي والسياسي إلى دعم حركة المعارضة البولونية ضد الكرملين، فكان الانسحاب السوفياتي من بولونيا بوّابةً لسقوط جدار برلين وانهيار المنظمة السوفياتية وتفكّكها.
في النتيجة استطاع الفاتيكان مساعدة بولندة للتحرّر من هيمنة قوّة خارجية متعسّفة. فهل يستطيع أن يساعد لبنان على التحرّر من هيمنة قوة داخلية فاسدة؟
شارك الخبر