بقلم: زياد أبو زياد
القاسم المسترك بين منظمة التحرير منذ إقامتها في عام 1964 وجميع الجبهات والحركات التي قامت قبلها أو بعدها هو كلمة ” التحرير “. أي أن البرنامج الوطني المجمع عليه فلسطينيا هو “التحرير” بغض النظر عما اذا كان تحرير كل فلسطين من النهر الى البحر أم تحرير الأراضي التي احتلت في حرب 1967 بما في ذلك القدس الشرقية ولا أقول القدس العربية لأن العروبية كانت تشمل معظم أحياء القدس الغربية قبل عام 1948 ولا أستطيع استثناءها من عروبتها.
ولقد ظل هذا هو البرنامج المسيطر حتى الخروج من لبنان عام 1982 والابتعاد عن أي خط تماس مع الأراضي المحتلة ورفض الدول العربية المتاخمة لاسرائيل السماح للمقاومة بالعمل من أراضيها إضافة الى محاولات بعض هذه الدول الاستحواذ على القرار الفلسطيني كورقة مساومة في يدها مما جعل المنظمة بقيادة الرئيس الراحل ياسر عرفات ترفع شعار القرار الوطني المستقل بداية من انعقاد المجلس الوطني في عمان عام 1984 ولاحقا. ثم بدأت المنظمة تتلمس الطرق للدخول الى ساحة العمل السياسي بعد انسداد افق العمل العسكري المقاوم. وقد برز هذا النهج الجديد في المحاولات الجادة من قبل م ت ف لبدء حوار مع الإدارة الأمريكية. وهذا موضوع لا أريد التوسع فيه لأنني لا أريد أن أبتعد عن الهدف الذي بدأت كتابة هذا المقال من أجله علما ً بأنني لم أكن بعيدا ً عن تلك المحاولات الجادة بل تقاطعت معها في بعض الأحيان. وأنتقل من هذه المرحلة مباشرة الى مرحلة أوسلو رغم أن السنوات التي امتدت بين 85 و 88 و 93 كانت حافلة بالأحداث التي كانت لها انعكاساتها على الشأن الفلسطيني وأبرزها الحوار مع أمريكا وقرارات المجلس الوطني المنعقد في الجزائر في نوفمبر 1988 واعترافه بالقرارارين 242 و 338 والانتفاضة الاولى وحرب الخليج ومؤتمر مدريد ومفاوضات واشنطن وأخيرا ً المفاوضات السرية التي تمخض عنها إعلان مباديء أوسلو الذي تم توقيعه رسميا ً بواشنطن في طقوس احتفالية بتاريخ 13 ايلول 1993.
لقد كان اتفاق أوسلو هو بداية التحلل من البرنامج الوطني القائم على التحرير ، وبداية تبني برنامج سياسي مبني على افتراضات مفرطة في حسن النية تعتقد بأن التحرير يمكن أن يتم من خلال عملية سياسية غامضة النتيجة تم ترويج غموضها على أساس أنه نوع من الغموض البناء constructive ambiguity ولكن تطبيق تلك العملية السياسية كان قائما الى حد ما على شكل من خداع الذات والتعامل مع الأماني على أنها حقائق.
فالإتفاق لم يحدد النتيجة النهائية لتطبيقه ولم يقض بتجميد الاستيطان في الضفة والقدس مما أتاح الفرصة لاسرائيل للاستمرار في برنامجها الاستيطاني التوسعي الذي قوض أية فرصة أو امكانية لاقامة دولة فلسطينية على أرض فلسطينية حرة محررة.
وعليه فإنني أستطيع القول بأن اتفاق أوسلو كان بداية الابتعاد عن البرنامج الوطني التحرري point of departure والانخراط في بناء مؤسسات دولة ليست موجودة على الأرض. فالمفارقة التي حصلت هي التخلي عن البرنامج الوطني المتمثل في التحرير والانشغال ببرنامج سياسي يقوم على أساس بناء مؤسسات ( دولة/ كيان /مشروع حكم غير محدد المعالم) أسموه ما شئتم ، ولكنه ليس دولة وليس برنامجا ً وطنيا ً بل برنامج ربما نصفه بالبرنامج السياسي مجازا ً.
هذا هو المطب الذي وقعنا فيه في وقت اعتقدنا أنه برنامج مرحلي ينتهي في أيار 1999 ثم اكتشفنا أن المرحلي تحول الى دائم وأن الدولة ليست قائمة إلا في عقول القادة وربما على المراسيم والبيانات والورق الذي يوقعونه أو يتداولونه وليس لها وجود في الواقع.
وهنا لا بد من التنويه الى أن بناء مؤسسات دولة في ظل احتلال يتدخل في كل تفاصيل الحياة يعني أن هذا الاحتلال سيحتفظ بوجوده في كل تلك التفاصيل كما أنه سيحاول دائما أن تكون أجزاء أو دوائر هامة من تلك المؤسسات في خدمة مصالحه وبرامجه لأنه يعرف بأنه يمسك بمفاتيح كل شيء حتى الماء والهواء. وعلى أساس هذا الفهم يجب فهم ما يسمى بالتنسيق الأمني فهو ليس تنسيقا ً بالمفهوم الذي تعنيه الكلمة لغويا ً وإنما توظيف لهذا التنسيق ولغيره من مهام هذه المؤسسات لخدمة البرنامج الاستيطاني الاحتلالي مهما كانت المسميات جذابة أو براقة. وكل هذا ناتج عن التخلي عن البرنامج الوطني وهو التحرير والدخول في دهاليز وأقبية برنامج سياسي مبني على الوهم أصبح أسيرا ً للواقع الذي ولد فيه.
ولا بد من الأخذ بعين الاعتبار أنه في ظل المعطيات سابقة الذكر وتقاطعها مع تداخلات الاحتلال ، يجعل المؤسسة الأمنية هي الأقوى من بين جميع المؤسسات بما في ذلك الحكومة التي تضطر لأن تقبل كونها صورية أو بعيدة عن المشهد في بعض الأحيان حين يتجاوز الأمر الشأن الخدماتي.
والذي دفعني الى كتابة هذا المقال هو التداعيات التي أعقبت قتل الناشط السياسي المرحوم نزار بنات. فالقتل الذي حدث هو بحد ذاته جريمة تتوفر فيها كل أركانها المادية والمعنوية والقانونية وكان يجب أن تُعالج وبسرعة في الاطار القانوني. ولكن وللأسف الشديد الأجواء مفعمة بعدم الثقة الجماهيرية بالسلطة وزاد في انعدام تلك الثقة التلكؤ الرسمي في اتخاذ القرارات الحاسمة والحازمة وعدم التصرف الفوري لامتصاص التأزم الجماهيري ربما بسبب عدم قدرة الحكومة فعليا ً التدخل في الشأن الأمني الذي هو في الواقع الفعلي وليس النظري خارج اطار سلطتها ، مما أتاح الفرصة لبعض الجهات المغرضة استغلال الوضع الجماهيري المتأزم لتقوم بتنفيذ أنشطة احتجاجية لتحقيق أهداف سياسية ضد السلطة. فالاحتجاجات العفوية التي حدثت كانت تعبيرا ً صادقا ً عن رفض الرأي العام لهذه الجريمة ولكن ما أعقبها من تصرفات وشعارات استفزازية لا تمت للجريمة بصلة من قبل جماعات سياسية معروفة أدت الى ردود فعل عنيفة من جانب الأمن والشرطة كانت لها تداعيات مؤسفة خرجت عن الدور الرسمي والمقرر للأمن والشرطة وتكرر فيه الاعتداء على القانون وعلى المواطن.
لقد كان وقوع جريمة القتل البشعة أكبرمؤشر على أننا فشلنا في بناء أجهزة أمنية تحترم القانون وتعمل بموجبه وفي إطاره ورأينا في المقابل أجهزة أمنية أو بالأحرى أفراد ينتمون للأجهزة الأمنية – وليس كل أفرادها – يتعاملون مع الأمور من منطلق شخصي وكأنهم في مشاجرة بين عشائر أو قبائل أو عصابات اجرام تعمل خارج نطاق القانون.
وإذا كان ما حدث من قبل هؤلاء الأفراد هو تجاوز على القانون واعتداء عليه ويجب محاسبتهم وإيقاع أشد العقوبة بهم ، فإن التجاوز الآخر الأكثر خطورة هو الخروج للشارع من قبل فئات سياسية هدفها تحقيق أهداف سياسية لا صلة لها بقتل نزار تُطالب باسقاط النظام وإسقاط الرئيس. وأقول بأن تصرفها هذا هو الأكثر خطورة لأنني أرفض أن تدعي هذه الجماعات أنها تنطق باسم الشعب. فكيف لها أن تقول ” الشعب يريد…” فهل تملك تفويضا من الشعب لتنطق باسمه ؟ بالتأكيد لا. ومثل هذا التصرف هو اعتداء على حق الشعب في التعبير عن نفسه وعما يريد. ولقد قوبل هذا الخطأ من قبل هذه الجماعات التي ادعت لنفسها حق تمثيل الشعب بخطأ لا يقل خطورة عنه وهو الادعاء بأن هذه السلطة هي لفتح ودعوة “ميليشيات” من فتح لتنزل للشوارع للدفاع عن الاجهزة الأمنية وعن السلطة !
ولا بد من نسأل أنفسنا ونحن نرى الخطأ يُعالج بخطأ والشأن الوطني يصبح شأننا لفصيل دون آخر ، والفصائل تتحول الى قبائل ودعوات للفزعة والثأر تحل محل تطبيق القانون ، الى أين وصل بنا الحال وما الذي أوصلنا الى ذلك.
لا شك بأن علينا باديء ذي بدء أن نعود الى البرنامج الوطني التحرري وأن نفحص كل ما بنينا من مؤسسات وأجهزة ونرى هل هو في خدمة البرنامج التحرري أم تآمر عليه وإنهاء لوجوده. ومن أجل ذلك فإن علينا أن نعيد النظر في الأسس التي بنيت عليها مؤسساتنا وهل هي أسس وطنية تندرج في إطار البرنامج الوطني أم أنه تم اختراقها وتجييرها لخدمة برامج تتنافى وتتعارض بل وتشكل النقيض لبرنامجنا الوطني.
هذه المحاسبة للذات تبدو شبه مستحيلة في ظل المعطيات الحالية ومراكز القوى التي ارتبط مصيرها بمصير الوضع الراهن أي الاحتلال. ومع ذلك فإن الأمانة تقتضي قول كلمة الحق. وكلمة الحق في وضعنا الحالي تستوجب أمرين: الأول أن نتوافق على برنامج وطني وهدف نريد الوصول اليه ، والثاني خطة عمل تدريجية وواقعية للتحلل من الوضعي الحالي والانطلاق نحو الهدف الذي حدده برنامجنا الوطني آنف الذكر.
فهل ذلك ممكن أم أننا تجاوزنا نقطة اللاعودة ؟ أخشى أن نكون قد تجاوزناها وأسال الله أن أكون مخطئا ً فيما أخشاه.
abuzayyadz@gmail.com