قراءة مختلفة لوجه تموز الأول
عبدالله عطية شناوة
تموز ـ يوليو 1958، تناسلت منه تموزات اخرى، وأحداث أوصلت العراق لما هو فيه الآن. ذلك التموز الذي ولدت منه نكبات وكوارث، أطاحت بكل الأيجابيات التي سعى مخططوا الحدث الى تحقيقها في الأيام الأولى كسبا للشرعية والشعبية، بحاجة الى مراجعته، وإعادة رسم صورته على حقيقتها، بعيدا عن تحامل أعدائه وتمجيد المتحمسين له.
ليس بمقدور أحد إعادة عقارب الساعة الى ما قبل ثلاثة وستين عاما، لكن بأمكاننا التحلي بالقدرة على التحرر من التقييمات الجاهزة لدى كل فريق، عن ذلك الحدث. والبحث عن ملامحه الحقيقية غير المرتشة. وهذا ما نتطلع إليه في هذا المقال.
في البدء لابد من تصحيح بعض التصورات، وربما الأوهام المتعلقة بالصورة المرسومة في الأذهان عن ((الثورة)) و ((النزوع الثوري)) فكرا وممارسة، حيث يحتفظ العقل الجمعي في مجتمعنا بصورة زاهية ورومانسية عن الثورة العنيفة، والعنف الثوري، بما جعلهما موضعا للتغني والتيجيل. ونظر الى المجتمعات التي لم تلجأ الى الثورة لحل تناقضاتها بعين الإستصغار.
وهنا يتعين تأكيد حقيقة ان المجتمعات التي تعتمل فيها الثورة، والنزوع الى حل التناقضات بالقوة والعنف هي في الغالب تلك التي تفتقر الى الثقافة السياسية، والى درجة من التحضر الفكري والرقي القيمي- لدى الحاكمين والمحكومين – بما يعيق امكانية توصلهم الى تسويات ترضي الجميع، وتفتح آفاق التطور التدريجي، وترسخ السلم الإجتماعي. ويؤكد هذه الحقيقة ان المجتمعات التي حققت تطورا في جميع المجالات، وتقدما علميا وارتقاء قيميا، بما يضمن مستوى مقبولا من أحترام حقوق الانسان الفردية والإجتماعية – الإقتصادية، هي تلك التي تجنبت التغيير عن طريق العنف.
في فجر الـ 14 من تموز ـ يوليو 1958 أعلن العقيد عبدالسلام عارف من دار الإذاعة العراقية في الصالحية ببغداد، التي سيطر عليها جنود وحدته العسكرية ، سقوط النظام الملكي في العراق، وإقامة نظام جمهوري. وقوبل ذلك الأعلان بابتهاج شعبي كبير أملا في أن يؤدي ذلك التغيير الى الحد من الإستبداد السياسي، واختلال ميزان العدل الإجتماعي، لكنه بدلا من ذلك أدخل البلاد في سلسلة، لم تنته بعد، من الصراعات الدموية، التي بدت بعض ملامحها بالتجلي بعد أسابيع معدودة من الرابع عشر من تموز – يوليو 1958
إرهاصات التغيير، التي لم تلتقطها مجسات الطبقة الحاكمة، خلال العهد الملكي، برزت بقوة في عام 1956، على خلفية انتفاضة التضامن مع مصر ضد العدوان الثلاثي. التضامن مع مصر كان عنوان الأنتفاضة، التي كانت لها بالطبع اسبابا أكثر عمقا وصلة بالتناقضات الداخلية، والبؤس الذي كانت تعانيه غالبية الشعب في ظل النظام الملكي المتحالف مع الغرب، والذي تشكل طبقة طبقة مالكي الأرض الأقطاعيون قاعدته الأساسية، وريع النفط المستغل من الشركات الغربية، مصدر تغذيته، ودوامه. وكانت معادلة العلاقة بين الحكم وقاعدته الاجتماعية – الأقطاع – قائمة على مبدأ، خذوا الأرض والفلاحين واستغلوهما، كما تشاءوا. ونحن سنستخدم عائدات النفط لدعم سلطتكم.
نسبة الأمية كانت تقارب السبعين بالمئة من مجموع السكان وربما تزيد عن التسعين بالمئة بين النساء. وفي ظل الفاقة والأمية يصعب تصور تطور ثقافي، والحديث عن ثقافة سياسية مجتمعية مؤهلة لإنتاج رؤية اجتماعية ناضجة لكيفية تجاوز الوضع، ونقل البلاد والمجتمع الى آفاق تطور أرحب. ومثل هذا الوضع مثالي لبروز الشخصيات والقوى التي تطرح أكثر الشعارات راديكالية في أي اتجاه، يمكن ان تجد فيه من يتأثر بها، ويمنحها ثقة قد لا تستحقها، ويسير خلفها، شبه معصوب العينين، خاصة إذا توجهت بخطابها الشعبوي الى عواطفه. وكان (( الضباط الأحرار )) هم الجهة الأوفر حظا في استغلال هذا الوضع.
لا يمكننا بالطبع نفي وجود أية نوازع وميول وطنية وقومية، لدى (( الضباط الأحرار )) العراقيين، لكنها قد تأتي في المرتبة الثانية بعد الطموح الشخصي للضابط الذي حركت التجربة المصرية لديه حلم المشاركة في السلطة أو الأستئثار بها، خاصة وهو يشاهد الشعبية الطاغية لجمال عبدالناصر، ليس في مصر فقط، بل في مختلف البلدان العربية، ومنها بلده العراق.
تكشف المصادر التي تناولت الثورة عن ان أغلب (( الضباط الأحرار )) الكبار وهم ذوو توجهات مختلفة، لم يكونوا منتمين الى أحزاب أو حركات سياسية، وإن كان بعضهم، وفي مسعاه لتأمين دعم شعبي لما يخطط له، قد أقام صلات بنوع ما مع بعض الأحزاب العلني منها والسري، وربما فكر بعضهم في الإستفادة من تلك الصلة في صراع ربما يكون قد تحسب له مع رفاقه في الحركة، لدعم توجهه السياسي أو طموحه الشخصي، في حيازة ما يرى نفسه مستحقا له من كعكة السلطة، أو حتى الإستئثار بالكعكة.
تباين اتجاهات وميول الضباط الأحرار لا ينفي حقيقة ان أغلبهم كان يميل الى التيار القومي، أو مشبعاً بالميول الدينية المحافظة. ويمكن التأكد من ذلك من خلال مراجعة أسماء من تشكلت منهم اللجنة العليا للضباط الأحرار، اما لجنة الأحتياط، والتي كان أعضاؤها من ذوي الرتب الأدنى، فقد كانوا جميعا، وكما أكدت سيرتهم اللاحقة، ينتمون الى التيار القومي، أو من أنصاره غير المنتمين.
وخلال الأسابيع الأولى للثورة برز في قيادتها إتجاهان متعارضان، أتجاه عروبي يريد تسليم قيادتها للرئيس المصري جمال عبد الناصر الذي كان يقود الجمهورية العربية المتحدة المكونة من مصر وسوريا، وعبر عن هذا الإتجاه بطريقة فجة عبدالسلام عارف نائب القائد العام للقوات المسلحة نائب رئيس الوزراء، وزير الداخلية، يدعمة التيار القومي بمختلف فصائله، وأبرز تلك الفصائل حزب البعث.
ولم يقبل ذلك التيار بأقل من وحدة إندماجية، مع الجمهورية العربية المتحدة، التي كانت مكونة آنذاك من سوريا ومصر، وحدة يتحول فيها قائد الثورة الزعيم (( العميد )) عبدالكريم قاسم، رئيس الوزراء القائد العام للقوات المسلحة وزير الدفاع، الى مجرد موظف لدى عبدالناصر. ولم يكن أمام قاسم سوى إفساح المجال أمام القوى التي تشعر هي الأخرى بخطر هذا المنحى، وكان أكبرها، وأوسعها نفوذا جماهيريا، الحزب الشيوعي الذي كان يخشى هو الآخر، من تحريم نشاطه، كما حدث للحزبين الشيوعيين، في إقليمي دولة الوحدة مصر وسوريا.
لكن دعم الشيوعيين لقاسم لم يكن بلا شروط. شروط من قبيل منحهم فسحة من الحرية، والإستجابة لبعض توجهاتهم الاجتماعية – الاقتصادية. ولعل أبرز تلك التوجهات يتعلق بالأصلاح الزراعي، وأطلاق الحريات النقابية للعمال والمهنيين، وتقليص نفوذ رجال الدين عبر قانون تقدمي للأحوال الشخصية، يحد من المعاملة المجحفة للنساء. أي توجهات تتعلق بالقاعدة الجماهيرية الأوسع الفلاحين والعمال والنساء.
قاسم خطط من جانبه للاستيلاء على قاعدة الشيوعيين الجماهيرية، ونقل تأييدها اليه عبر خظوات الأصلاح الأجتماعي التي أقدم عليها: الأصلاح الزراعي وتحسين قوانين العمل، وشروط عمل العاملين ورفع أجورهم، وتطوير قانون الأحوال الشخصية ليعيد للمرأة بعض حقوقها المحجوبة بقوانين تستند الى الأحكام الدينية والعرف الأجتماعي المرتبط بالثقافة الأقطاعية المتخلفة. لكن ذلك أدى من جانب آخر الى خلق حالة من الإلتباس لدى البسطاء، والتوهم بأن قاسم وسلطته والشيوعيون شيء واحد، فتدفقوا بعشرات الآلاف الى المنظمات الجماهيرية التي أنشأها الحزب الشيوعي مثل اتحادات الشبيبة والطلبة والعمال والجمعيات الفلاحية ورابطة المرأة، وميليشيا المقاومة الشعبية وغيرها كثير.
ولم يكن ذلك ليضير “الزعيم الأوحد”، الذي عقد العزم على الأستفادة من ذلك الإلتباس، ومن تلك المنظمات في صراعه ضد التيار القومي، وضد الإقطاع المدعوم من رجال الدين، ثم معالجة أمرها وتصفيتها، عندما يجد انها خرجت عن ان تكون أداته الطيعة.
يصعب تقديم أدلة مؤكدة على ان قاسم كان خلواً من أي تعاطف مع المهمشين والمعدمين في المجتمع العراقي، وان تدابير الإصلاح الأجتماعي التي اعتمدها لا مبعث لها سوى خلق قاعدة جماهيرية، توطد زعامته المطلقة، وتكون له جيشا في مواجهة مخاطر التيار القومي الذي أصر على سرعة الأندماج بالجمهورية العربية المتحدة ، خاصة وأن أقرب الأشخاص اليه بين الضباط الأحرار، ونائبه في قيادة القوات المسلحة ورئاسة الحكومة عبدالسلام عارف بدأ ومنذ الأسابيع الأولى لقيام الجمهورية بالترويج لفكرة (( اننا جنود لأخينا الكبير جمال )). وصار يكرر الحديث، في التحشدات الجماهيرية التي كان يقيمها التيار القومي، لا عن مستقبل العراق، بل عن اندماج العراق في دولة الوحدة بقيادة ناصر.
ربما أضمر قاسم تعاطفا حقيقيا مع المحرومين لكن الرغبة في انصافهم تحتل بالتأكيد المركز الثاني أو حتى الثالث وربما السادس بين الدوافع التي حملته على الشروع في تلك الإصلاحات، والتي تخلى عن بعضها، أو ضيق العمل بها في أوقات لاحقة.
كان قاسم يكرر على نحو لا ينقطع انه “فوق الميول والإتجاهات” وكان محقاً في ذلك، لأن رغبته الحقيقية كانت في ان تتوحد الميول والاتجاهات في مجرى واحد يرسمّه زعيما أوحدا، أميناً وخالداً، للجمهورية العراقية الخالدة، وعبر عن ذلك البرنامج الإذاعي اليومي (( أقوال الزعيم )) الذي يعيد خطبه وأحاديثه، بعد مقدمة تقول: (( أقوال الزعيم تنير الدرب للعاملين المخلصين )) وهي مقدمة في غاية الخبث، تتهم من لا يهتدي بأقوال (( الزعيم الأمين وأبن الشعب البار )) بعدم الإخلاص، أي بالخيانة.
لم يعتبر قاسم النشاط الحزبي جريمة، ولم يحرمه بشكل علني، لكنه على أرض الواقع عامله كخيانة، وعمل على ضرب كل حزب أو فصيل سياسي لا يكون تابعا له، فبعد أن أستعان بالشوعيين لضرب التيار القومي، ضرب الشيوعيين، وحارب الحركة الكردية بقيادة مصطفى البارزاني، وشق الحزب الوطني الديمقراطي الذي كان على رأسه الشخصية الديمقراطية واسعة الإحترام كامل الجادرجي، عبر تحريض نائب رئيس الحزب محمد حديد على الأنشقاق وتشكيل الحزب الديمقراطي التقدمي، واستخدم بعض المنشقين في عملية تحجيم الحزب الشيوعي، وأبرزهم عراك الزكم الذي أوكلت اليه مهمة شق الحركة الفلاحية، والأتحاد العام للجمعيات الفلاحية الذي كان يقوده الكادر الشيوعي كاظم فرهود، وأضطر الحزب الوطني الديمقراطي في نهاية المطاف الى تجميد نشاطه، بعد أن وجد زعيم الحزب كامل الجادرجي أستحالة مواصلة النشاط السياسي في ظل القمع الذي مارسته سلطة قاسم ضد الجميع.
وفي رسالة وجهها السكرتير الأول للحزب الشيوعي العراقي حسين الرضي المعروف باسم (( سلام عادل )) الى قيادات الأحزاب الشيوعية خارج العراق، أستعرض بعض ملامح سياسة قاسم باالقول:
(( قبل أن يحتفل العراق بالعيد الأول للثورة، أخذ الوجه اللا ديمقراطي للسلطات الحاكمة في بغداد يزداد بروزا. إذ بدأت توجه ثقل سياستها في الداخل، لأخفات المد الثوري، ولتفتيت القوى الديمقراطية الواحدة بعد الأخرى، وفرض وإدامة حكم عسكري فردي على البلاد. وعلى الرغم من أن هذه السياسة وجهت سهم رمحها في البدء ضد الحزب الشيوعي، بغية تجميد أو كسب القوى الوطنية الأخرى الى جانبها، إلا أنها سرعان ما كشفت حقيقتها المعادية لكل القوى الديمقراطية، وللحقوق والمطالب الديمقراطية لكل جماهير الشعب )).
وفي كلمته أمام المؤتمر الثاني والعشرين للحزب الشيوعي السوفييتي، استعرض (( سلام عادل )) بعض ما كان يتعرض له حزبه على يد سلطات قاسم قائلا:
(( (( أحصي حتى الآن (269) شهيدا من الشيوعيين والديمقراطيين والوطنيين المخلصين. وقد أغتيلو على أيدي العناصر الرجعية والأقطاعية وعصابات الإجرام التي تعمل بمعرفة الحكومة، وبأشراف بعض أجهزتها البوليسية، أو نتيجة إطلاق النار على المظاهرات السلمية من جانب قوات القمع الحكومية. كما أصدرت المجالس العرفية العسكرية أحكاما بالموت على ( 106 ) من المناضلين الشيوعيين والديمقراطيين إبدل قسم منها الى السجن المؤبد، أو السجن عدة سنوات. وقد نفذ حكم الإعدام بأربعة من الجنود الذين ساهموا بقمع مؤامرة الموصل. وطبقا لإحصاء أولي لم يشمل جميع الأحكام، أصدرت المجالس العرفية أحكاما بالسجن تجاوزت ( 4 آلاف سنة ) بينها أحكام بالسجن المؤبد. وبلغ عدد المعتقلين عام 1960 وحده، إستنادا الى مصدر رسمي ( 22 ) الف شخص.
وتعرضت المنظمات والنقابات العمالية وجمعيات الفلاحين والمواطنين عموما ألى (7510) حوادث إعتداء، وقد إقترنت هذه الإعتداءات بتوقيف وإبعاد الآلآف من ضحاياها، وباستثناء من قتل نتيجة هذه الإعتداءات أصيب ( 1527 ) شخصا بجراح. وهجرت ( 2424 ) أسرة عائلة من محلات سكناها، وأحرق أو نهب الكثير من دور وأكواخ الفلاحين.
كما جرى ولا زال يجري إنتهاك فظ للحركة الديمقراطية فيعتقل البارزون والقادة النقابيون ورجال حركة السلم والكتاب والصحفيون، وبعض قادة الأحزاب الوطنية، وأصحاب المطابع وتضطهد الحياة الحزبية، وتداس كرامة المواطنين، وتخرق القوانين، ويسود البلاد حكم عسكري فردي منذ 14 تموز 1958 حتى الآن )).
المقتبسات من كتاب سلام عادل .. سيرة مناضل الجزء الثاني تأليف: ثمينة ناجي يوسف ونزار خالد. إصدار دار المدى. الطبعة الأولى سنة 2001. صفحات 118 ـ 119
وكانت سلطات قاسم قد رفضت قبل ذلك، منح الحزب الشيوعي رخصة بالعمل القانوني، وفبركت حزبا كارتونيا بأسم الحزب الشيوعي العراقي، برئاسة داوود الصائغ. ورخص لصحيفة تنطق بلسان الحزب الكارتوني، في المقابل قام بإغلاق صحيفة (( أتحاد الشعب )) الناطقة باسم الحزب الشيوعي، وكل الصحف المقربة من الشيوعيين، وشنت سلطاته حملات أعتقال وتعذيب، للشيوعيين والناشطين النقابيين، أمر أضطر الحزب الى الأنتقال للعمل السري، وأصدار صحيفة سرية بأسم (( طريق الشعب )).
كل هذه السياسات القاسمية هيأت الأوضاع أمام إنقلاب شباط 1963 الدموي، واضح الصورة والملامح، وما تلاه من إنقلابات وحروب، أنتهت بتمكين الولايات المتحدة من أحتلال العراق وإقامة نطام الأحزاب المليشياوية المحاصصاتي الذي أوصل البلاد إلى ما هي فيه الآن من أوضاع كارثية بكل المقاييس.
تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط