تقرير: عبدالوهاب خضر
لا يزال الداخل التونسي يشهد حالة من المواجهة بين بقايا حركة النهضة الإخوانية ورغبة شعبية جارفة في التخلص من كل أشكال الفساد والإرهاب، وزمن تدهورت فيه كل الأوضاع خاصة الإقتصادية والتونسية .. فقد ضربت حركة انشقاقات عاصفة، حركة النهضة الإخوانية في تونس، على وقع خلافات وانقسامات حادة بين قياداتها بلغت ذروتها عقب قرارات الرئيس التونسي التصحيحية يوم 25 يوليو الماضي.. يتزامن ذلك مع ثبوت تورط “الحركة” في العديد من ملفات الفساد المالي والسياسي، وتعالت الأصوات لحل حركة النهضة الإخوانية، التي شاركت في حكم البلاد لنحو عقد من الزمان.
طالب حقوقيون بتطبيق القانون على الحركة الإخوانية على غرار ما حدث مع حزب التجمع الدستوري الديمقراطي الحاكم، الذي أطاحته احتجاجات حاشدة في 2011…وأكد المحامي والحقوقي ياسين عزازة في تصريحات أن عشرات المحامين يستعدون لرفع شكوى جزائية، سيتم إيداعها في غضون الأيام القليلة المقبلة في وكالة الجمهورية بالمحكمة الابتدائية بتونس، لمقاضاة حركة النهضة والمطالبة بتجميد أموالها…في نفس السياق يعلن الرئيس التونسي عن خطة إقتصادية لمواجهة التحديات الراهنة .
إنشقاقات
وبدأت الانشقاقات بشكل عملي على واقع ثورة الشعب التونسي الغاضب من “جماعة الإخوان” ببيان صادر عن عدد من شباب حركة النهضة، بينهم نواب بالبرلمان، طالب بحل المكتب التنفيذي للحركة لاتهامه بالفشل والتسبب بتدهور الأوضاع في البلاد، وكذلك تحمل راشد الغنوشي “زعيم الجماعة” مسؤوليته أمام الشعب والالتزام بالمسار التصحيحي والاعتراف بالأخطاء.
فقال 130 شابا ومن بينهم عدد من النواب، إن “تونس تمر بمنعطف تاريخي أفضى إلى اتخاذ رئيس الجمهورية إجراءات استثنائية، قوبلت بترحيب شعبي كما أثارت تحفظ جزء من النخبة السياسية والقانونية”.
وتابع البيان أن “هذه الوضعية الحرجة، والتي لا يخفى على أحد منا أن حزبنا كان عنصرا أساسيا فيها، تضعنا أمام حتمية المرور إلى خيارات موجعة لا مفر منها، سواء كان ذلك من منطلق تحمل المسؤولية وتجنب أخطاء الماضي، أو استجابة للضغط الشعبي”.
وطالب البيان مجلس الشورى الوطني بتحمل مسؤوليته وحل المكتب التنفيذي للحزب فورا وتكليف خلية أزمة قادرة على التعاطي مع الوضعية الحادة التي تعيشها تونس لتأمين العودة السريعة لنشاط المؤسسات الدستورية- وهو ما أعلن عدد من الخبراء عن تخوفهم من تلك “الخلية” واعتبروها مناورة وإنقاذ مركب الإخوان الغارق-
غضب قديم
وفي تحليل للمحلل السياسي التونسي نزار جليدي قال إن الأحداث المتصاعدة في تونس على مدار الأيام القليلة الماضية أعادت إلى قيادات النهضة مواقف الخلاف القديم ووقائع الغدر التاريخية من جانب راشد الغنوشي الذي ترك رجاله وقت الأزمة في تونس وفر هاربا إلى بريطانيا تاركا الجميع في السجون في عام 1987.
وأكد أن الأحداث قد جددت الخلاف القائم بالفعل منذ عدة شهور بين إخوان الداخل والخارج، مشيرا إلى أن عناصر التنظيم الدولي يدعمون الغنوشي لأنه واحد من الحوافز المالية للتنظيم، ولكن عناصر حركة النهضة يرفضون تماما استمراره في رئاستها. وأوضح جليدي أن قيادات الداخل قد عبروا عن غضبهم تجاه الغنوشي، عندما طالبه أكثر من 100 قيادي منهم برلمانيون لتقديم استقالته قبل 4 أشهر، فيما عرف باسم بيان المائة، ثم تبرأ لطفي زيتون وهو أحد أبرز القيادات داخل الحركة، من نشاطها.
تخبط
ولم تكن حالة التخبط السياسي والغضب الشعبي التي شهدتها، وتشهدها تونس خلال فترة حكم “جماعة الإخوان” مجرد صدفة أو حالة طارئة، أو بدون أسباب جوهرية، فقد تردت الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية إلى أقصى درجة حيث تشير بيانات رسمية صدرت هذا الأسبوع عن ارتفاع العجز المالي والدين العام في تونس بشكل حاد العام الماضي، فبالإضافة إلى التوترات السياسية، تعاني تونس أزمة اقتصادية غير مسبوقة مع عجز مالي بلغ 11.5%، لأول مرة في نهاية عام 2020، في حين انكمش الاقتصاد بنسبة 8.8%..وتحتاج تونس إلى اقتراض 7.2 مليارات دولار من بينها نحو 5 مليارات دولار على شكل قروض خارجية لإصلاح ما أفسده “الإخوان” .
تدهور
وتشير كافة البيانات والتحليلات الرسمية وضع البلاد الاقتصادي والاجتماعي الذي تسبب في الأحداث الراهنة، فقد شهدت تونس في الآونة الأخيرة تأزما للأوضاع الاقتصادية وانحدارا واضحا في كل المؤشرات التنموية رافقه تصاعد التوترات بين الفاعلين السياسيين .. ومع مرور 10 سنوات على أحداث يناير 2011 ارتفعت حدّة الاحتجاجات الشعبية، ولأيام متتالية خرج المتظاهرون إلى الشوارع في عدد من مدن الجمهورية مطالبين بالتشغيل ونادوا بشعارات الحرية والكرامة وإسقاط النظام، والنهوض بالأوضاع الاجتماعية.
أما اقتصاديا فالوضع في تونس اليوم سيئ للغاية وكل المؤشرات المتعلقة بنسق النمو وعجز ميزانية الدولة والميزان التجاري كارثية، وفق تقدير الخبير في الشأن الاقتصادي ووزير المالية الأسبق حسين الديماسي.. والذي قال في تصريحات له: بالسنوات الأولى بعد الثورة ،عندما كنا نسجل نسبة نمو بـ1 بالمئة و2 بالمئة كنا ندق ناقوس الخطر وننبه للتداعيات واليوم نحن نسجل أرقاما محبطة تصل إلى -8 بالمئة و-10 بالمئة، لقد ساءت الأمور بشكل عميق”.وفسّر الخبير ما وصلت إليه البلاد من “هبوط مطلق في الإنتاج والميزان الاقتصادي” بتأثيرات انتشار الوباء على النشاط الاقتصادي، وأضاف أن “ما تعيشه البلاد من هزات اجتماعية من حين لآخر جهويا وفئويا وقطاعيا زاد الوضع سوءا”.
وأوضح الخبير أن المشهد السياسي “غير المستقر وغير ذي مصداقية وشفافية والتوّتر الدائم بين مختلف السلطات خاصة التشريعية والتنفيذية يبقى من أهم الأسباب مما صدّر صورة سلبية للمستثمرين والدائنين في الخارج، كما فقد التونسيون في الداخل كل أمل وثقة في تحسن الوضع في الآجال القريبة والمتوسطة”. وأكد الديماسي “إننا نعيش وضعا اقتصاديا لم تعرف له البلاد مثيلا حتى في أحلك الأزمات التي شهدتها في سنوات الاحتلال الفرنسي وسنوات 1978 و1986، بأزماتها الاقتصادية والاجتماعية.
فشل
وفي تقرير أعده رئيس المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية عبدالرحمان الهذيلي قال فيه إن “المنوال التنموي الذي أثبت فشله وكان أبرز أسباب اندلاع الثورة قبل 10 سنوات فشلت الحكومات المتعاقبة في تغييره وإيجاد منوال جديد يستجيب لتطلعات التونسيين، كما أن السياسيين والأحزاب أكدوا عدم قدرتهم على ممارسة السلطة”.
وأصدر المنتدى تقارير شهرية عن مختلف المظاهر الاجتماعية للأزمة الاقتصادية في زمن الإخوان، تبرز ارتفاع عدد المنقطعين عن الدراسة وتزايد عدد المهاجرين غير النظاميين وامتداد الاحتجاجات، حيث تشير الأرقام إلى انقطاع أكثر من 100 ألف تلميذ سنويا عن الدراسة، كما أن 16 ألف تونسي هاجروا بشكل غير نظامي إلى إيطاليا خلال عام 2020،على سبيل المثال.
ويقول الناشط في المجتمع المدني إن “قراءتنا لهذه المؤشرات كانت تنبئ بكل وضوح أن الوضع الاجتماعي بلغ أقصاه وأننا مقبلون على انفجار شعبي ولكن الطبقة السياسية استمرت في تهافتها على المواقع والمناصب”.
الوضع كارثيا
ويرى المختص في الشأن الاقتصادي معز الجودي في تصريحات له أن الوضع الاقتصادي في تونس “أصبح كارثيا تماما دون أي مبالغة أو تهويل” بسبب سياسات “حركة النهضة” ..وأضاف “كنا حذرنا مرارا وتكرارا طيلة السنوات الماضية من انهيار الاقتصاد التونسي ومن خطورة غياب سياسات دقيقة ورؤية واضحة وعدم الانطلاق في الإصلاحات الضرورية”. ورجح معز الجودي أن الوضع سيزداد سوءا لغياب برنامج إنقاذ للاقتصاد التونسي، الذي هو في حاجة ملحة الآن إلى برنامج إنقاذ عاجل، وفق تقديره.وأوضح المحلل الاقتصادي أن المديونية العمومية الخارجية تجاوزت 100 بالمئة من الناتج المحلي الخام وكذلك المديونية الداخلية من البنوك التونسية بلغت مستويات قصوى.
وتابع: “تحتاج تونس خلال عام 2021 إلى 18 مليار دينار لسد العجز في الميزانية بما فيها 16 مليار دينار مديونية خارجية، كما أننا أمام نفقات كبيرة لتسديد ديون سابقة تتمثل في 16 مليار دينار خدمات دين و20 مليار دينار كتلة أجور مقابل ضعف النمو الذي سجلناه في السنة الفارطة وكان سلبي 8.2- بالمئة وهو رقم لم نسجله منذ الاستقلال”.وأكد الخبير الاقتصادي أن “اقتصاد تونس لم يعد يصنع الثروة والموارد الكافية لمجابهة الحاجيات والتكاليف.
خطة إنقاذ
وتبدت اليوم ملامح خطة إنقاذ واسعة يعدها الرئيس التونسي قيس سعيد للإسراع في اللحاق بوضع بلاده اقتصاديا بعد أن أثقلتها صراعات السياسيين، وتبدو المحاور الرئيسية لتلك الخطة مرتكزة على الإسراع بإنتاج الفوسفات في البلاد لتصديره وتوفير النقد الأجنبي، فضلا عن اتخاذ سياسيات نقدية تخفف الأعباء عن المواطنين..كما ترتكز الخطة على رؤية حازمة لضرب الفساد والفاسدين من لصوص المال العام، وفي ذات الوقت طمأنة المستثمرين ورجال الأعمال الشرفاء والجادين.
وفي جزء منها، يبدو أن خطة قيس سعيد تعتمد على جهوده الدبلوماسية وما يكنه له العالم من احترام، من أجل توفير حزم تمويل ومساعدات خارجية للإسراع بوضع تونس على الطريق الصحيح اقتصاديا.
ودعا الرئيس التونسي قيس سعيد السبت البنوك لخفض أسعار الفائدة قائلا إن هذه الإجراءات مطلوبة للمساعدة في تحسين الظروف الاجتماعية والاقتصادية في البلاد…وقال سعيد إن أناسا فاسدين تركوا البلاد على شفا الإفلاس..وأضاف في اجتماع مع رئيس الجمعية المهنية التونسية للبنوك والمؤسسات المالية وعضوين بالجمعية “أدعوكم للوقوف في نفس الجبهة مع الشعب التونسي وذلك عبر الحط قدر الإمكان من نسب الفائدة المعمول بها”..ومضى يقول “قادرون على مواجهة كل التحديات بإمكانياتنا، بإعانة أصدقائنا، بإعانة أشقائنا، لكن لنعول قبل كل شيء على أنفسنا، ويمكن أن نحقق نتائج لا يتصورها الكثيرون”..وقال سعيد إنه لا سبيل لمصادرة الأموال أو الابتزاز في إشارة لطمأنة رجال الأعمال والمستثمرين بعد أن قال إنه سيطرح مبادرة صلح لاسترجاع أموال “نهبها” بعض رجال الاعمال..وتابع: “أريد أن أطمئن الجميع أني سأعمل دون هوادة حتى لا يظلم أحد.. لا مجال للتخوف أو تهريب الأموال… الحقوق محفوظة في إطار القانون”…وتأتي تصريحات سعيد، بعد أن شهدت تونس نقل شركة فوسفات قفصة المملوكة للدولة شحنات فوسفات بالقطار للمرة الأولى خلال عام.وكان النقل بالقطارات قد توقف عقب احتجاجات أغلقت خط السكك الحديدية.
وكان سعيد قد أعلن يوم الأسبوع الماضي إجراءات طوارئ للسيطرة على الحكومة وأقال رئيس الوزراء وجمد عمل البرلمان..ويقود الرئيس التونسي منذ إعلانه عن التدابير الاستثنائية التي تمتد لـ 30 يوما قابلة للتمديد، حملة علاقات ولقاءات لحشد الدعم لبداية إصلاحات واسعة مثل مكافحة الفساد والغلاء والاحتكار..وكان سعيد التقى أيضا ممثلين عن اتحاد الأعراف واتحاد الشغل ومنظمات حقوقية.وعرض سعيد صلحا جزائيا مع رجال أعمال فاسدين مقابل إطلاق مشاريع في المناطق الفقيرة وتعهد بحماية الحريات واحترام الدستور.
9