الدولة والطائفية واشكاليات الوحدة والسلم المجتمعي الدولة والانقسام الاجتماعي إن الدول في المجال العربي على نحوين: دول أيدلوجية تعمل بمختلف الوسائل بما فيها القهرية لتعميم أيدلوجيتها واقتحام مجتمعها بكل فئاته ومكوناته وشرائحه في بوتقة أيدلوجيتها.. وكل طرف أو مكون يرفض الانضمام إلى هذه الأيدلوجيا، فيمارس بحقه النبذ والإقصاء والعنف المادي والرمزي.. لهذا فإن صلة هذه الدولة بمواطنيها يتم عبر الأجهزة الأمنية، وإذا توفرت فيها بعض أشكال الديمقراطية، فهي شكلية وتمارس الاستبداد والقهر بقفازات ناعمة.. ودول تقليدية تعتمد في بنيتها الأساسية على حكم العائلة أو العشيرة أو أي شكل من أشكال الانتماءات التقليدية وهي أيضا بحكم بنيتها حاضنة للبعض وطاردة للبعض الآخر.. ولعل أحد الفروقات الأساسية بين الدولة الأيدلوجية والدولة التقليدية في التجربة العربية المعاصرة، هي أن كلا الدولتين وديكتاتوريتين واستبداديتين، واحدة باسم الأيدلوجيا الدينية أو الأيدلوجيا التقدمية، والأخرى باسم حكم العائلة وتقاليد المجتمع والحياة العامة في البلد.. فكلاهما ديكتاتوريتان تمارسان الاستبداد والإقصاء والنبذ بكل صنوفه.. ويضاف إلى هذا أن الدول الأيدلوجية هي بطبيعتها أيضا دولا قمعية.. بمعنى أن لأجهزتها الأمنية سطوة وصلاحيات هائلة لإدامة الاستقرار وحماية السلطة.. فهي دول ديكتاتورية وقمعية في آن.. وفي ظل هذه الدول فإن الأقليات الدينية تعاني العديد من المآزق والمشاكل المتعلقة بحريتها الدينية ومستوى مشاركة أبناءها في الحياة العامة.. وقناعة الدراسة الأساسية: أنه إذا لم تتغير بنية الدولة في المجال العربي من دولة أيدلوجية أو تقليدية إلى دولة مدنية – تشاركية – تعددية محايدة تجاه عقائد مواطنيها، فإن مشاكل الأقليات ستستمر وتزداد استفحالا.. والذي يزيد أزمة الأقليات في هذا السياق، هو طبيعة فكرها السياسي المحافظ، الذي يجعلها تحذر من الانخراط في مشروعات الإصلاح الوطني.. لهذا فإن الدراسة تعتقد: أن تطوير فكر الأقليات السياسي، ودفعه نحو الانخراط في مشروعات الإصلاح والتفاعل الخلاق مع قضايا التغيير السياسي، يساهم في معالجة مشكلة الأقليات في الدول العربية المعاصرة.. وتطوير الفكر السياسي للأقليات للخروج من نفق المحافظة إلى رحاب الإصلاح يعني النقاط التالية: 1- الانخراط في مشروعات سياسية وفكرية عابرة للمكونات التقليدية ومتجاوزة للانتماءات الطبيعية، والمساهمة في بناء كتل وطنية تطالب بالإصلاح وتعمل من أجله.. 2- الانعتاق من ربقة الانكفاء والانزواء، وكسر حواجز الانطواء، والتفاعل الكامل مع شركاء الوطن.. لأننا نعتقد أن الطائفية في المجال العربي تمارس على نحوين أساسين وهما: النحو الأول: الطائفية الغالبة وهي تمارس طائفيتها بتبني سياسات النبذ والتهميش والإقصاء للآخر المختلف والاستمرار في دفعه عبر وسائل قسرية وناعمة للمزيد من الانكفاء وبناء الحواجز النفسية والاجتماعية والسياسية مع الآخر المختلف الديني أو المذهبي أو القومي.. والنحو الآخر: هي الطائفية المغلوبة وهي طائفية معكوسة تبرر انكفاء الذات وتسوغ المفاصلة الشعورية والعملية.. فإذا كانت الطائفية الغالبة تمعن في سياسات الإقصاء والتمييز، فإن الطائفية المغلوبة تمعن في سياسات الانعزال والنظرة النرجسية للذات.. والتحرر من النزعة المحافظة في الفكر والسياسة، يقتضي العمل على نقد وتفكيك أسس ومتواليات الطائفية المعكوسة المتعشعشة في نفوس وعقول الكثير من أبناء الأقليات الدينية والمذهبية والقومية في المجال العربي.. 3- بناء العلاقة ونظام الحقوق والواجبات على أساس المواطنة المتساوية مع الاحترام التام لخصوصيات المواطنين الدينية والمذهبية.. والمواطنة بحمولتها القانونية والدستورية، هي بوابة الانتقال بمجتمعاتنا من حالة السديم البشري إلى المجتمع التعاقدي الذي يضمن حقوق الجميع، ويفتح المجال القانوني للجميع للمشاركة في بناء الأوطان واستقرارها السياسي والاجتماعي.. ويبدو من خلال معطيات عديدة، أن ظاهرة الانقسام في مجتمعاتنا العربية والإسلامية تحت يافطات وعناوين دينية ومذهبية وقومية، ظاهرة حقيقية، وتتطلب معالجة واعية وموضوعية وتاريخية.. ولقد كان العالم الفرنسي (جاك بيرك) واعيا لظاهرة التصدع والتنازع التي تشق الاجتماع السياسي العربي والإسلامي الحديث من خلال لفت الانتباه إلى وجود ما سماه بـ(وتائير سير) واستراتيجيات حراك متعارضة ومتضاربة في المجتمع العربي الواحد، بما يصح معه القول بوجود مجتمعين متقابلين ومتصادمين في المجتمع الواحد.. وتأسيسا على هذه الحقيقة فإننا نستطيع القول: إن الدولة العربية–الإسلامية المعاصرة هي القادرة وحدها بما تمتلك من إمكانيات وقدرات وسياسات، من معالجة كل التداعيات السلبية من جرا وجود حالة من التعدديات والتنوعات في المجتمع والوطن الواحد. ولا يمكن أن نتجاوز تشظيات الاجتماع العربي–الإسلامي المعاصر، إلا بخيار الدولة الحاضنة للجميع والمعبرة عن جميع التعبيرات والمكونات، ومتجاوزة في آن انقسامات المجتمع وتشظياته الأفقية والعمودية.. وفي تقديرنا أن هذا الأمر يتطلب الاهتمام بالنقاط التالية: 1- ضرورة أن تكون مؤسسة الدولة متعالية على انقسامات المجتمع، ولا تكون جزءا منها.. 2- أن لا يكون الانتماء الديني أو المذهبي أو القبلي هو قاعدة التعامل، وإنما تكون قيمة المواطنة بكل حمولتها القانونية والدستورية هي وحدها قاعدة التعامل في مختلف دوائر الحياة. فالمواطنة بصرف النظر عن المنابت الأيدلوجية للمواطنين، هي التي تحدد نظام الحقوق والواجبات.. 3- المطلوب دائما وبالذات في الدول التي تحكم مجتمعات مختلطة ومتعددة، هو صيانة التعدد على مستوى الأمة والمجتمع، وبناء مجتمع سياسي موحد بعيدا عن نزعات المحاصصة.. لأننا نعتقد أن بناء الدولة على قاعدة المحاصصة الطائفية أو المذهبية، يديم الانقسامات، ويحيي التوترات مع كل حدث أو تطور سياسي.. لهذا فنحن مع احترام تام لكل مقتضيات التعددية على مستوى الاجتماع، أما على مستوى الدولة فإننا بحاجة إلى مجتمع سياسي موحد.. بحيث تكون الكفاءة هي جسر العبور الوحيد إلى مواقع الدولة الأساسية.. وفي هذا السياق تعتبر إن نظام المحاصصة الطائفية التي عملت الولايات المتحدة الأمريكية في العراق تنفيذه وتطبيقه، من أرذل الأنظمة التي شوهت النسيج الاجتماعي العراقي، وأدخلت العلاقات الداخلية بين مختلف المكونات والتعبيرات العراقية، في محنة شديدة لازال الواقع العراقي يدفع ثمنه على مختلف المستويات. 4- ضرورة العمل على بناء مؤسسات للمجتمع المدني، عابرة للمناطق والأديان والمذاهب والقبائل. وإذا لم تتمكن شعوبنا من بناء مؤسسات مدنية وطنية جامعة لكل التعدديات، فإن هذه الأزمات ستستمر ولن نتمكن من الخروج من مآزق الراهن. فالطريق للخروج من كل التداعيات السلبية والخطيرة، التي تعيشها اغلب المجتمعات العربية والإسلامية اليوم، في وقف حالة الانحدار والتشظي المذهبي والجهوي، وإعادة الاعتبار لكل عناصر الوحدة والائتلاف الاجتماعي والوطني. وان الاستقرار السياسي العميق، هو الشرط الشارط لأي عملية تنموية أو تطويرية لكل المؤسسات والهياكل الإدارية والسياسية. وان التعامل الحكيم في التعامل مع حقائق التنوع الاجتماعي، تقتضي التفكير بطريقة ليست ضيقة أو منحبسة في اطر واعتبارات مادون الوطنية. لان هذه الأطر الضيقة، ستنتج بطبعها خيارات ضيقة، لاتنفع حقائق التنوع الاجتماعي، وتضر في ذات الوقت بحقيقة الوحدة الوطنية والاجتماعية. وفي تقديرنا إن أي خيار لايساهم في تعزيز الوحدة الداخلية لمجتمعاتنا المتنوعة، هي خيارات مضرة للراهن والمستقبل معا. وعليه فإننا نرى أهمية معالجة كل مشاكل التنوع الاجتماعي، ولكن على قاعدة الوحدة الاجتماعية والوطنية. وان أية محاولة لمعالجة مشاكل هذه الحقائق، وتفضي إلى خلق حالة من الإرباك الاجتماعي والسياسي، فإنها على الصعيد الواقعي، لن تعالج هذه المشكلات، وستضيف لها حساسيات ومشكلات جديدة من جراء التعامل الخاطئ مع حقائق التنوع الاجتماعي. ولبناء المعادلة الصائبة، بين عدم التغافل عن المشاكل، وفي ذات الوقت عدم الإضرار بحقائق الوحدة الوطنية والاجتماعية. نقترح الالتفات إلى الأفكار التالية 1-ضرورة وجود منظومة قانونية، تعتبر الانتماء الوطني والمواطنة، هي الحقائق الثابتة التي تحدد قواعد المعالجة لأية مشكلة سواء كانت إدارية أو ثقافية أو سياسية. 2-إن معالجة أي مشكلة في الإطار الوطني، هي تساهم على المستوى الفعلي على تعزيز حقائق الوحدة الوطنية والاجتماعية. ونعتقد في هذا الإطار إن التغافل عن المشاكل، هو الذي يضر عبر متواليات عديدة بمستوى الاستقرار الداخلي والانسجام الاجتماعي. 3- العمل على زيادة وتيرة التواصل الاجتماعي، وتشجيع كل المبادرات التي تستهدف تعزيز حالة الإخاء الوطني. لان حالة الجفاء والتباعد النفسي والاجتماعي، هي التي تضر بالوحدة. وان التواصل الاجتماعي بكل مستوياته، هو الذي يعزز خيار الوحدة، ويعمق مستوى التفاهم بين جميع المكونات والأطياف. من الطائفة إلى الدولة حين التعمق في مجرى الأحداث والتطورات والتحولات السياسية والاجتماعية في المنطقة، يجدها تتجه نحو مسارين و خيارين.. المسار الأول: هو تفكيك الدول القائمة وبناء كانتونات ودويلات دينية ومذهبية في المنطقة. وهذا بطبيعة الحال سيفتح الأفق العربي صوب صراعات ونزاعات مذهبية ودينية أهلية، تدمر ما تبقى من النسيج الاجتماعي، وتؤسس لمشروعات بناء مجتمعات مغلقة وذات هوية خالصة، مما يفضي إلى التهجير والتهجير المضاد، ويدمر أسس التعايش بين الناس. ويحول الانتماء الديني والمذهبي والعرقي والقومي، من مصدر للطمأنينة الاجتماعية، إلى رافد لتغذية النزاعات المفتوحة على تدمير الدول والأوطان. وفي هذا المسار تنهار الدولة كما ينهار المجتمع، وتتحول الفضاءات الاجتماعية إلى مسرح للاحتراب وتصفية الحسابات وممارسة العنف بكل صنوفه وأشكاله. ولا شك أن هذا الخيار أو المسار هو من المسارات الكارثية على المنطقة العربية، لأنه يدمر كل شيء ولا يصل إلى شيء.. لأن الانقسام والتشظي والمتلازم دائما مع الحروب واستخدام العنف، سيتولد وسيسري على جوانب الحياة المختلفة. لذلك يعد ووفق المقاييس المختلفة، أن هذا المسار من المسارات الكارثية على الانسان العربي والاستقرار العربي والنسيج الاجتماعي العربي. لأنه يحول الجميع ضد الجميع دون أفق سياسي واجتماعي واضح ونبيل. لذلك نجد أن الدول التي بدأ بالبروز فيها هذا المسار، أو هناك قوى تعمل من أجل انخراط الجميع في هذا المسار، تعيش كل صنوف العذاب والعنف والقتل. فالجميع يمارس القتل والاختطاف والتطهير الديني أو المذهبي أو العرقي، والكل يشعر أنه بهذا العمل المشين يدافع عن مقدساته وتاريخه وثوابته، وهو في حقيقة الأمر يدمر مقدساته وتاريخه وثوابته. وفي مقابل هذا المسار الكارثي الذي يحول العرب بكل دولهم وشعوبهم، إلى ساحة للحرب والاقتتال العبثي. ثمة مسار آخر لا زال يراهن على الدولة، ويسعى بكل إمكاناته للدفاع عن مبدأ الدولة الجامعة والحاضنة للجميع. وهذا الخيار والمسار يشجع ويدعو الجميع للخروج من أناهم القبلية والقومية والمذهبية إلى رحاب الاجتماع الوطني الذي يثرى بالجميع، وإلى الدولة التي تتسع للجميع. وأمام هذه المسارات و متوالياتها، لا شك إننا مع المسار الثاني وندعو إلى تجنيب كل الدول العربية كوارث المسار الأول الذي يدمر الدولة والمجتمع معا.. و في هذا السياق يجدر بنا أن نذكر الجميع بالحقائق التالية: 1ـ إن القبائل والمذاهب والأديان، ليست بديلا أو نقيضا لمفهوم الدولة وضروراتها السياسية والاجتماعية والإنسانية. وحينما ندعو إلى التشبث بخيار الدولة والعمل على حماية فكرة الدولة في الاجتماع العربي المعاصر، لا ندعو إلى تدمير القبائل أو المذاهب أو الأديان. وإنما ندعو إلى احترام هذا التنوع الذي تعيشه كل المجتمعات العربية. ولكنه الاحترام الذي يعزز خيار الاندماج والوحدة. لأنه حينما يتشبث كل طرف بعنوانه الخاص ويتم التضحية بحاضن وجامع الجميع، فإنه يفتح الطريق لفتن وحروب لا تنتهي بين جميع هذه المكونات. وحينما تقصر الدولة أمام هذه الحقائق، من الضروري أن تطالب برفع هذا التقصير. ولكن من المهم أن لا يقودنا تقصير الدولة أو عدم إيفائها بمتطلبات الحياة إلى التضحية بها.. لأنه ضرورة لا يمكن لأي مجتمع الاستغناء عنها. والمطلوب دائما إصلاح أوضاع الدولة وليس التضحية بها كمؤسسة جامعة وحاضنة للجميع. وهي ليست بديلا عن حقائق المجتمع القبلية والمذهبية والدينية، كما أن هذه الحقائق أيضا ليست بديلا عن الدولة ودورها ووظيفتها. والمطلوب عربيا احترام التنوع الديني والمذهبي والقومي في المنطقة العربية، وحماية الدولة بوصفها المؤسسة التي لا غنى عنها.. 2ـ إن حماية الدولة ودورها الحاضن لجميع التعبيرات، يتطلب من جميع هذه التعبيرات الانعتاق من ربقة الأنانية والانكفاء والانطواء وتنمية المساحات المشتركة، التي تحول جميع هذه التعبيرات إلى رافد لإثراء الحياة العامة والمشتركة. وهذا بطبيعة الحال يتطلب الإعلاء من قيمة المواطنة، بوصفها هي العنوان والحقيقة القانونية والدستورية التي تنظم منظومة الحقوق والواجبات.. فالأوطان لا تبنى بانغلاق كل م