لا يبدو أن هناك شيئا يمكن أن يحطم صورة وشعبية الرئيس السابق دونالد ترامب في عيون مناصريه رغم مرور ثمانية أشهر على خسارته الانتخابات الرئاسية لعام 2020 واتهام الكونغرس له بحض المتظاهرين على اقتحام مبنى الكابيتول يوم السادس من يناير الماضي، والتصويت بعزله مرتين خلال السنوات الأربع من حكمه واتهامه بالتقصير في مواجهة وباء كورونا الذي أدى إلى وفاة 400 ألف أميركي في عهده، إضافة إلى ما يواجهه حاليا من ملاحقات قضائية، فقد حظي الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب بأصوات أكثر من 70% من المشاركين في مؤتمر العمل السياسي المحافظ الذي نظم قبل أيام في مدينة دالاس، بعد أن أجرى استطلاعا حول مدى موافقة المشاركين لترشح ترامب للرئاسة للدورة القادمة، وقال 70% من الحاضرين بالمؤتمر إنهم سيصوتون لترامب إذا كان هو مرشح الحزب الجمهوري في انتخابات الرئاسة لعام 2024. وحل حاكم فلوريدا رون ديسانتيس في المرتبة الثانية بنسبة 21%، فيما لم يحصل أي من المرشحين المحتملين الآخرين سوى على أقل من 1 % في الاستطلاع. وجاءت تلك المؤشرات لتقضي على آمال قادة الحزبين الجمهوري والديموقراطي في تراجع شعبية ترامب وانحصار تأثيره بين أوساط الناخبين الأميركيين، حيث لايزال يتمتع بقدرات على تفجير المفاجآت السياسية حتى من دون الحاجة إلى سلاحه الأشهر باستخدام مواقع التواصل الاجتماعي مثل تويتر وفيسبوك. وكان الرئيس ترامب هو النجم البارز في المؤتمر، حيث كرر ادعاءاته بتزوير الانتخابات واتهم شركات التكنولوجيا الكبرى بتزوير الأصوات، وشن هجوما على وسائل الإعلام واليسار الراديكالي، واصفا انتخابات 2020 بأنها وصمة عار في تاريخ الولايات المتحدة. وعلى مدة ساعة ونصف الساعة خلال خطابه، وجه ترامب سهامه إلى الديموقراطيين واليساريين وانتقد سياسات بايدن حول الهجرة وتأمين الحدود، وقال إنها ستؤدي إلى أكبر كارثة في التاريخ الأميركي وفي تاريخ العالم، معربا عن أسفه لما سماه سياسة خلفه بايدن في الترحيب برجال العصابات ومهربي المخدرات والمهاجرين غير الشرعيين. وخصص ترامب جانبا من حديثه في التقليل من هجوم مناصريه على مبنى الكابيتول في السادس من يناير الماضي، واصفا ذلك اليوم بأنه كان يشهد مسيرة حب وتشجيع له، وقال: «لقد كان هناك أكثر من مليون شخص في مسيرة حب لسبب واحد أنه كان لدينا انتخابات فاسدة ومزورة»، وأضاف «لقد كانوا مسالمين كانوا أناسا عظماء». وشن ترامب هجوما عنيفا ضد وزير العدل السابق ويليام بار الذي لم يؤيد ادعاءاته في تزوير الانتخابات. وبدا ترامب سعيدا وسط تصفيق وهتافات مناصريه الذين هتفوا «أربع سنوات أخرى، أربع سنوات أخرى». بدلا من عودة الحزب الجمهوري إلى رشده، أظهرت غالبية استطلاعات الرأي، أن ترامب عزز سيطرته على الحزب بدلا من تراجع نفوذه فيه. فهو لايزال يمثل الخيار الأول لدى قاعدة الجمهوريين في الانتخابات الرئاسية المقبلة، الأمر الذي فرض على العديد من قيادات هذا الحزب الإدراك أن حظوظهم في الاستمرار بلعب دور سياسي مرهونة بولائهم لترامب. ولعل «تراجيديا» استبعاد النائبة ليز تشيني، ابنة نائب الرئيس السابق ديك تشيني، التي كانت من بين أبرز الأصوات المناهضة لترامب من موقعها القيادي في الحزب وفي مجلس النواب، تظهر بشكل واضح مدى التغيير الذي أصاب الجمهوريين، إذ صعدت في المقابل الأصوات الموالية والمتطرفة لإسكات الانتقادات التي وجهت إلى ترامب في أعقاب اقتحام الكابيتول مباشرة، بحجة الحفاظ على وحدة الحزب واستعادة السيطرة على الرئاسة ومجلسي الشيوخ والنواب. ولم يكتف الجمهوريون بذلك، بل أفشلوا أيضا تشكيل لجنة تحقيق مستقلة بتلك الأحداث. ومن المثير للقلق أن خطاب ترامب «التحريضي» بحسب الديموقراطيين، لم يعد مقتصرا عليه وحده، بل انضمت إليه أصوات أخرى باتت أكثر جرأة في التعبير عما تضمره، كخطاب مستشار الأمن القومي السابق لترامب الجنرال مايكل فلين، الذي أشار إلى دعمه انقلابا على الطريقة البورمية، أثناء ظهوره في مؤتمر نظمته حركة «كيو أنون» اليمينية المتطرفة قبل بضعة أسابيع، رغم نفيه اللاحق هذا التصريح. وفي استطلاع للرأي أجراه المعهد العام لأبحاث الدين أخيرا، خلص إلى أن 28 % من الناخبين الجمهوريين يتفقون مع العبارة القائلة بأن «الوطنيين الأميركيين قد يضطرون إلى اللجوء إلى العنف من أجل إنقاذ البلاد». وهو ما دعا البعض إلى القول ان «ظاهرة ترامب» هي أحد الأعراض وليست سببا للخلل الذي تعانيه الديموقراطية الأميركية المتدهورة، بحسب بعض الأكاديميين الذين وقعوا على عريضة نشرت تحت مسمى «بيان القلق». ووصف الموقعون أنفسهم بأنهم «علماء الديموقراطية الذين شاهدوا التدهور الأخير للانتخابات الأميركية والديموقراطية الليبرالية بقلق متزايد». ورأى هؤلاء أن منتقدي ترامب بالغوا في تقدير تأثير هزيمته في الانتخابات على القوى التي دعمته، وأن تأثير خطابه رغم كل الضجيج الذي يحيط بنظرية المؤامرة وسرقة الانتخابات وارتفاع أسهمه، آخذ في الانخفاض، مقابل تصاعد حدة الخطاب الذي تدلي به الطبقة السياسية. وهنا يقول البروفيسور لاري بارتلز، المدير المشارك لمركز دراسة المؤسسات الديموقراطية في جامعة فاندربيلت العريقة «حقيقة أن الكثير من الناس العاديين كانوا على استعداد لاتباعه حتى الآن، هي مؤشر واضح على مدى استقطاب مجتمعنا سياسيا». وأضاف «حقيقة أن العديد من النخب السياسية كانت على استعداد لاتباع ترامب حتى الآن هي أكثر دلالة، لا بل هي غير صحية. ومع ذلك حتى لو غاب ترامب عن المشهد السياسي، من المؤكد تقريبا أن شخصا آخر مثله سيتابع ذلك». وبالفعل، لا يمكن تجاهل أن الاستقطاب السياسي بات يضرب المجتمع الأميركي، بل تسرب إلى كل مفاصل الحياة السياسية الأميركية تقريبا. ويحذر العديد من الخبراء من أن هذا الاستقطاب أدى إلى تقسيم العائلات والمنظمات ومصادر المعلومات والإعلام، فضلا عن الخلاف المندلع على خلفية برامج التعليم التي تدرس في المدارس الأميركية، والمخصصة تحديدا لمواجهة الانقسام والتمييز العرقي وعنف الشرطة الذي يستهدف السود، وعمليات القتل التي تضرب بشكل دوري المدارس الأميركية والمؤسسات الثقافية والدينية والتجارية أيضا، مع استراتيجية واسعة ينفذها الحزب الجمهوري، للتحريض على قضايا الحرب الثقافية في انتخابات التجديد النصفي لعام 2022، بدلا من شن حملة مباشرة ضد أجندة بايدن الاقتصادية، التي تشير معظم استطلاعات الرأي إلى أنها تلقى تأييدا لدى الناخبين. منذ خسارة ترامب انتخابات الرئاسة الأميركية في نوفمبر العام الماضي، وقعت سلسلة أحداث سياسية لافتة، طرحت تساؤلات لدى العديد من المحللين والمثقفين الأميركيين، من الحزبين الديموقراطي والجمهوري والمستقلين، تمحورت حول سؤال واحد كبير: هل سيعيد خروج ترامب من السلطة السياسة الأميركية إلى طبيعتها السابقة؟ بيد أن سؤالا آخر لا يقل أهمية يطرح نفسه أيضا: هل الانقسام الكبير حول التمييز العنصري، الذي يخترق الولايات المتحدة من قمة قيادتها السياسية إلى الناس العاديين، انقسام بنيوي موجود منذ تأسيس أميركا.. أم جاء أخيرا نتيجة سياسات خاطئة؟ وجهتا نظر ناقشتا السؤال الأول، حيث عبرت الأولى عن خشيتها من أن يكون عهد ترامب قد أحدث تغييرا دائما في المشهد السياسي الأميركي. بينما رأت الأخرى، أن سنوات حكمه المضطربة، ما كانت سوى انحراف عرضي رغم خطورته، سيصار إلى تجاوزه بعدما غادر البيت الأبيض. في الواقع، نجح ترامب في إحداث تحولات عميقة لا تنتهي بسهولة وسرعة.. ولم يسبق أن شهد تاريخ الرؤساء الأميركيين رئيسا مثيرا للجدل ومحطما للتقاليد والأعراف الراسخة مثل ترامب الذي بدل كثيرا في ملامح الحياة السياسية، وأثار الجدل والخلاف والانقسام في الحياة الحزبية، وعمق انقسامات عرقية وثقافية في المجتمع الأميركي، وقوض الإيمان بالقيم والأعراف والتقاليد التي لم يخرج عنها أي رئيس أميركي. لكنه في المقابل نجح في أسر الملايين من المريدين والأنصار بخطاباته الشعبوية غير التقليدية، وفي تقديم الولاء له ولنهجه «الترامبي» على الولاء للحزب الجمهوري. أدخل ترامب تغييرات كثيرة في المجتمع الأميركي وفي علاقات أميركا نفسها مع دول المنطقة والعالم.. والرئيس بايدن تسلم أميركا مختلفة وإرثا خارجيا وشرق أوسطيا بمزيد من التعقيدات والقيود. لم يستمر غياب الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب عن المعترك السياسي أكثر من أسابيع معدودة بعد مغادرته البيت الأبيض. ونقل عن مساعدين له أنه يسعى إلى ترجمة وعده الغامض «بالعودة بطريقة ما»، عبر الحفاظ على نفوذه داخل الحزب الجمهوري. وبدا أنه في طريقه إلى كسر تقاليد الرؤساء السابقين بعد خروجهم من البيت الأبيض عبر مواصلة لعب دور سياسي كبير وطموح. ترامب، الذي غادر البيت الأبيض بطريقة مخزية ودفع ثمن خطأ ارتكبه وكاد أن يودي به نهائيا، كأول رئيس أميركي يحال الى المحاكمة أمام مجلس الشيوخ مرتين ولكن من دون إدانة. هو أول رئيس أميركي يغادر البيت الأبيض من دون أن ينتهي ومن دون أن يغادر المعترك السياسي، وأول رئيس سابق تبقى لديه طموحات وأهداف مستقبلية: ربما يفكر ترامب في الترشح الى انتخابات الرئاسة عام 2024 لكنه بالتأكيد يخطط للفوز في الانتخابات النصفية العام المقبل 2022 لمجلس النواب والشيوخ. وإذا ما فقد الديموقراطيون السيطرة على الكونغرس فسيصبح بايدن رئيسا ضعيفا ومقيدا في سياساته الخارجية. أضف تعليق(التعليقات تمثل آراء أصحابها ولاتمثل رأي "الانباء") x